واطسون : كنت قبل زواجي أسكن مع شارلوك هولمز في شقة واحدة ، وتقوم على خدمتنا إمرأة عجوز تدعى السيدة هدسون ، ولقد اعتاد هولمز أن ينام متأخرا ولا ينهض باكرا ، لذلك شعرت بالدهشة حينما طرق باب غرفتي في ساعة مبكرة ، وأيقظني من نومي قائلا : اعذرني إن أيقظتك من نومك باكرا يا واطسون ، ولكنه المصير المشترك ، إذ إن السيدة هدسون استيقظت فأيقظتني وجئت أوقظك . فقال واطسون وهو يفرك عينيه : ماذا حدث ؟ هل اشتعلت النار في المنزل ؟ فقال هولمز : لا : ولكني جاءتني زبونة شابة وهي تنتظرني في القاعة ، وحين يستيقظ الشبان مبكرا ، فمعنى ذلك أن القضية خطرة ولم أشأ أن أفوت عليك متعة المشاركة منذ بدايتها فأيقظتك . واطسون : هذا لطف منك …………… إني قادم . والحق أن هولمز يغرف شغفي بالقضايا التي يعالجها ، وإعجابي بمنطقه العلمي وتفكيره السديد ، فارتديت ثيابي على عجل ولحقت به إلى قاعة الاستقبال . وكانت في القاعة فتاة شابة مرتدية ثيابا سوداء ، وقد غطت وجهها بشبكة حريرية ، فنهضت لدخولنا ، فقال هولمز : صباح الخير يا سيدتي ………… إني شارلوك هولمز وهذا مساعدي وصديقي الدكتور واطسون ، وتستطيعين الكلام أمامه على راحتك . آه …… أرى أن السيدة هدسون هدسون قد أشعلت المدفأة ، وسوف أناديها لتغلي لنا بعض الشاي ، فأنت تشعرين بالبرد كما أرى فقالت : لا يا سيد هولمز ……… لا أرتجف من البرد ، بل من الخوف . وكان يبدو عليها الذعر حقا بحركاتها العشوائية ونظراتها الحائرة ، وهي لم تتجاوز الثلاثين من العمر ، ولكن شعرها انتشر فيه الشيب ، فبدت أكبر من سنها الحقيقي ، إنها إمرأة خائرة القوى ………… فقال لها هولمز بلهجة حانية : لا تخافي ……… سنحل هذه القصية بأسرع ما يمكن ، إني واثق من ذلك ، هل جئت بالقطار هذا الصباح ؟ فقالت : وكيف عرفت ، هل رأيتني من قبل ؟ فقال هولمز : أنا لا أعرفك ولكني أرى أن بطاقة الدعوة يطل رأسها من حقيبة يدك . فقالت : نعم … لقد غادرت منزلي في الساعة السادسة ، وركبت القطار ثم توجهت إلى المحطة مباشرة ، ليس لدي أحد أقضي إليه بهمومي ، وقد حدثتني السيدة ( فارنتوش ) عنك وعن مساعدتك لها ، فهل تلبي إلي طلبي وتمد إلي يد العون ؟ ولكني لا أملك مالا في الوقت الحاضر ………… ولكني سأتزوج خلال شهر أو شهرين ولن أكون ناكرة للمعروف . فتوجه هولمز نحو مصنفاته وبدأ يبحث فيها : فارنتوش …… فارنتوش …… نعم … إنها قضية مجوهرات ، سنهتم بقضيتك كما اهتممنا بقضية السيدة فارنتوش و أكثر ، وأما أتعابي فأترك لك أمر دفعها حين يتيسر لك ذلك …والآن قصي بوضوح ما يشغل بالك . قالت المرأة : المخيف في حالتي يا سيد هولمز إني لا أعرف سبب خوفي ، وتحوم شكوكي حول تفاصيل دقيقة لا يمكن لأحد إدراكها سواي ، حتى أعز الناس لدي وأحبهم يظن أنها أوهام إمرأة ، وقد قيل لي انك رجل إنساني متفهم لآلام الناس ، هل هذا صحيح ؟ فقال هولمز : حسنا ……… إني أستمع إليك . فقالت : إني أدعى (( هيلين ستوتر )) وأعيش مع زوج أمي المنحدر من عائلة إنكليزية عريقة ، وهي عائلة (( رالوت )) من منطقة ( سوزي ) . قال هولمز : هذا اسم معروف . فقالت : بعد أربعة أجيال فقدت هذه الأسرة ممتلكاتها كلها ، ولم يبق لها في مطلع القرن التاسع عشر سوى هكتارات من الأراضي ، ومنزل قديم عمره مائتا عام كأنه الأطلال ، وهي مرهونة كلها ، وقد حاول زوج أمي أن يبتعد عن حياة الوهم التي عاشها أبوه ، فاقترض بعض المال من أخواله ، ودرس الطب واستقر في كلوكوتا بالهند ، وسارت أموره على أحسن حال لأنه طبيب بارع ، ولكنه مولع بضرب الخدم الهنود ، وقد انهال بالضرب على أحدهم ذات يوم حتى قتله ، فحكم عليه بالسجن لمدة طويلة ، وحين خرج منه كان حطام إنسان ، في الهند تزوج ( روالوت ) أمي التي كانت أرملة ستونر القائد العام لقوات المدفعية في البنغال ، ولي أخت توأم تدعى جولي ، ولم يكن عمرها أكثر من عامين حينما تزوجت أمي الدكتور روالوت ، وكانت ميسورة الحال ، بل ثرية لأن دخلها يتجاوز الألف غنية سنويا و شاءت الأقدار أن تموت في حادثة قطار منذ ثماني سنوات ، وقد أوصت بثروتها إلى زوجها مادمنا نعيش معه ، ما عدا مبلغا من المال يدفعه إلينا سنويا استعدادا لزواجنا ، ولم يشأ الدكتور روالوت أن يستقر في لندن كما قرر أولا ، فذهبنا للإقامة في مسكن أجداده في ( سنوك موران ) ، غير خائفين من غدر الزمان ، لأن والدتنا تركت لنا ما يكفي من المال ، وسرعان ما تبدلت شخصية لدكتور روالوت تماما ، فلم يعقد صداقة مع جيرانه الذين ابتهجوا لقدوم أحد أفراد هذه العائلة العريقة إلى منطقتهم ، وأغلق الباب على نفسه لئلا يقابل أحدا ، وإذا خرج لكي يتشاجر مع الناس ، والظاهر إنها طبيعة متوارثة في العائلة ، وقد اشتدت حدتها بإقامته الطويلة في الهند ، وقضائه أعواما في السجن ، فأصبح يثير الرعب في القرية لسوء خلقه ، حتى أنه رمي الحداد في النهر ودفعت إليه ما أملك لئلا يقاضيه ، و أما أصدقائه فهم الغجر الذين سمح لهم بالإقامة في أراضيه المهملة فيزورهم و يقضي نهاية الأسبوع معهم في ترحالهم ، و زاد الأمر سوءا ولعه بالحيوانات المتوحشة ، فكان يراسل أحد أصدقائه في الهند ، فيبعث إليه من حين إلى آخر حيوانات حية و يوجد في حديقته الآن نمر و غوريلا ، و لا أدري أيهما أشد فتكا من الآخر ، و قد أطلقهما في الحديقة يتجولان مما أثار الرعب في القرية كلها . و تستطيع يا سيد هولمز أن تتصور حياتنا بعدئذ ، فالخدم يهربون بعد أسبوع ، مما يضطرنا إلى القيام وحدنا بأعباء المنزل الفسيح ، و حين توفيت أختي لم تكن قد تجاوزت الثلاثين ، و لكن شعرها أكثر شيبا من شعري الآن . هولمز : هل توفيت أختك ؟ الآنسة هيلين : منذ سنتين ، و هذا موضوع حديثي الأساسي ، إذ أن لنا خالة عزباء تسكن منطقة ( هارو ) فكنا نزورها من حين إلى آخر ، و ذات يوم تعرفت أختي لديها إلى ضابط في البحرية ، و أعلنت زواجها ، و حين علم زوج امي بالأمر لم يعترض بل أظهر ابتهاجه ، و لكن أختي توفيت قبل أسبوعين منذ زواجها . و كان هولمز يصغي إليها مغمض العينين ، ففتحهما فجأة و قال : أذكري لي التفاصيل ، أرجوك . الآنسة هيلين : سأحاول … فالمشهد ما يزال محفورا في ذاكرتي . قلت لك أن المنزل قديم ، فلم نكن نشغل سوى طابقه الأرضي ، حيث انتشرت الغرف الثلاث حول الممر دون أن يفضي بعضها إلى بعض ……… هل تتابعني ؟ هولمز : تماما ، أكملي ! فقالت : وهذه الغرف تطل على الحديقة ، وذلك المساء نفسه ذهب الدكتور إلى غرفته ، ولكنه لم ينم لأننا كنا نشم رائحة سيكاره القوية ، ولبثت أختي معي ، وتجادلنا طويلا حول زواجها، ثم تركتني حوالي الحادية عشر ، وقبل أن تغلق الباب سألتني : هل سمعت في الليل صفيرا يا هيلين ؟ الأنسة هيلين :أي صفير جولي : صفيرا خافتا .في المنزل أو حوله حوالي الثالثة صباحا لعله صوت شخيرك هيلين : لا ……فأنا لا أشخر جولي : كيف لم تسمعيه إذا ! هيلين : لعله أحد هؤلاء الغجر المخيمين تحت الأشجار جولي : فكيف لم تسمعيه أنت أيضا ؟ هيلين : لأن نومك أخف من نومي وانصرفت بعدئذ و سمعت صوت المفتاح يدور في باب غرفتها فقاطعها هولمز قائلا : هل من عادتك إقفال باب غرفتك ؟ هيلين : نعم …… كل مساء شارلوك : و ما السبب ؟ هيلين : لقد حدثتك عن الغوريلا و النمر فنحن نخاف منهما شارلوك : نعم…هذا صحيح تفضلي هيلين : كانت ليلة عاصفة لم أذق فيها طعم النوم لقصف الرعد ولمعان البرق ، وفجأة سمعت صوتا شق سكون الليل إنه صوت أختي ففتحت الباب فخيل إلي إني أسمع فحيحا أو صفيرا خافتا ، وبعد لحظة سمعت صوت شيء معدني كأنه سلسلة تسقط على الأرض أو أداة ما شبيهة بها كنت جامدة في الممر من الهلع و إذا بباب أختي يفتح و رأيتها تخرج شاحبة تترنح يمينا و شمالا فسارعت إليها أسندها فانهارت على الأرض بين يدي وكانت ترتجف وجسدها ملوي إلى الخلف كأنها تتألم ألما شديدا ، ثم همست إلي قائلة هيلين إنه الشريط المرقط ، ولعلها تريد أن تقول شيئا آخر وهي تشير إلى غرفة زوج أمي و فار الزبد من فمها وانقلبت عيناها فهرعت إلى تلك الغرفة وطرقته بعنف فخرج ملهوفا و جرى إلى أختي و حاول أن يسقيها بعض الماء و لكنها فقدت الوعي ثم توفيت بعد لحظات دون أن تستعيد وعيها. سألها هولمز : هل أنت واثقة من أنك ذلك الصفير الخافت وذلك الصوت المعدني وهل تعرفين ما مصدره ؟ هيلين : هذا ما طلبه مني مفتش الشرطة ولعلني قد توهمته وسط هبوب العاصفة ولكني واثقة من سماعه شارلوك :ماذا كانت ترتدي أختك ؟ هيلين : كانت ترتدي فستان نومها وبيدها علبة كبريت وكان ما يزال العود مشتعلا بيدها الأخرى شارلوك : هذا مهم لأن معناه أنها حين استيقظت على الضجة أشعلت عود الكبريت لتعرف ما هو . ما رأي مفتش الشرطة ؟ هيلين : قد قام بتحقيق جاد بسبب السمعة السيئة لزوج أمي ولكنه لم يستطع تحديد سبب الموت و قد شهدت بأن النوافذ مغلقة من الداخل و أي سمعتها تغلق غرفتها بالمفتاح ولم نجد شقا في الحائط أو الأرضية فثبت بالدليل أن أختي ، لقيت مصرعها وهي بالغرفة وحدها ، ولم نجد آثار عنف على جسده . هولمز : و هل توجهت أبحاث المفتش إلى السم ؟؟ هيلين : بالضبط…… و لكن التحاليل لم تؤدي إلى شيء . هولمز : هذا غريب … و ما سبب موت أختك في رأيك ؟؟ هيلين : أظنها ماتت من الرعب و لكن ما الشيء الذي أرعبها إلى هذه الدرجة ؟؟ لست أدري . هولمز : ماذا كانت تعني بقولها الشريط المرقط ؟؟؟ هيلين : فكرت طويلا في معناها و قلت لنفسي لعلها تقصد المنديل المرقط الذي يضعه الغجر على رؤوسهم . فهز هولمز رأسه و لم يظهر عليه الإقتناع : تابعي ماذا حدث بعدئذ ؟؟؟ هيلين : انقضت سنتان ، فتقدم لخطبتي صديق أعرفه منذ زمن بعيد ، و لم يعترض زوج أمي على زواجنا في الربيع القادم . و قبل البارحة اضطررت إلى ترك غرفتي لأن العمال هدموا الجناح الشرقي لإصلاحه و نمت في غرفة أختي المتوفاة و البارحة أحسست بالرعب الشديد لسماع الصفير الخافت نفسه الذي وصفته لك ، فنهضت من سريري و أشعلت المصباح فلم أجد شيئا ، فارتديت ملابسي و ركبت عربة إلى محطة القطار و جئت إليك . فأمسك هولمز بمعصمها قائلا : و لكنك تتسترين على زوج أمك …. هيلين : و كيف ذلك ؟؟ فكشف معصمها فإذا عليها أصابع زرقاء و قال : إنه يسيء معاملتك …. هيلين : نعم ….. إنه رجل قاسي القلب . و لم يجبها و جعل يحدق في النار مفكرا ، ثم قال : هذه قضية معقدة حقا : و لابد من التحقق من بعض التفاصيل فيها ، و لكن الوقت قصير ، لابد من زيارة ستون موران اليوم ، ورؤية الغرف دون أن يدري زوج أمك فهل هذا ممكن ؟؟؟؟؟ هيلين : نعم ، لأنه ذاهب اليوم إلى لندن و سوف يتغيب النهار كله و لدينا خادمة منذ أسابيع و لكنها عجوز بلهاء أستطيع إبعادها بسهولة ….... هولمز : و متى سترجعين إلى المنزل ؟؟ هيلين سأستقل قطار الثانية عشر …. هولمز : حسنا ، سنستقل نحن القطار التالي عليه . هيلين : أشكرك يا سيد هولمز …. و لكن هل ستساعدني حقا ؟؟ هولمز : لا ريب في ذلك …….اطمئني ، إلى اللقاء . فأحكمت هيلين ستونر الشبكة الحريرية على وجهها و مضت فقلت له : ما رأيك يا هولمز ؟ هولمز : إنها قضية غامضة و محزنة . واطسون : و لكن الفتاة تؤكد أن أختها كانت وحدها . هولمز : و الصفير أو الفحيح يا واطسون ؟؟ و عبارة الشريط المرقط ؟؟ يجب أن نربط بين الصفير الليلي بوجود جماعة الغجر في الحديقة مع مصلحة زوج أمها في ألا تتزوج لئلا يفقد ثروته ، أضف إلى ذلك الصوت المعدني الذي قد يكون صوت قضيب من الحديد انتزع ثم أعيد إلى مكانه ، و أظن أن حل القضية يدور حول هذه العناصر . واطسون : و لكن ما عسى الغجر يفعلون ؟؟ هولمز : ليس لدي أي فكرة بعد ، و لكننا سنذهب بعد الظهر لنرى تطابق الفرضية مع الواقع… ما هذا ؟ و فجأة انفتح الباب و دخل رجل ضخم فوقف و الشرر يتطاير من عينيه . كان أصفر الوجه ملأته التجاعيد ، و عيناه غائرتان تتحركان في كل اتجاه ، و أنف معقوف كأنه منقار طائر جارح ، و يحيط بذلك كله تعبير من الدهاء و الشر لا يمكن وصفه ، و كان يرتدي ملابس خليطا من ثياب الفلاحين و أهل المدينة ، و يمسك بيده سوطا متينا . فقال العملاق بصوت قوي : أي منكما المدعوهولمز ؟؟ فقال هولمز بهدوء : أنا هو يا سيدي فهل أتشرف بمعرفة اسمك و سبب زيارتك ؟؟ فقال العملاق : إني الدكتور ** كريمسباي روالوت ** من ستون موران . هولمز : حقا…. تشرفنا .. روالوت : لقد خرجت إبنة زوجتي من هنا ، فماذا تريد ؟؟ فقال هولمز بلهجة رزينة : ألا تظن أن النهار مشرق بالنسبة لهذا الفصل ؟؟ فزمجر الرجل : ماذا تريد ؟؟ فتابع هولمز سخريته : هل تظن أن موسم التفاح سيكون جيدا هذا العام ؟؟ فصاح الرجل بصوت متقطع : لا تريد أن تجيبني … أعرفك أنت شرلوك هولمز …المحقق الجنائي الجاسوس …عميل الشرطة . فابتسم هولمز راضيا عن نفسه و قال : لقد كانت محادثة ممتعة و مثيرة يا دكتور ، و لكني أرجوك أن تغلق الباب قبل أن تذهب ، لأني أكره التيارات الهوائية !! قال الرجل : سأذهب حين أريد … لكني أحذرك بأني أكره التدخل في شؤوني ، إني خطر إذا هوجمت . و تقدم خطوة إلى الأمام و أمسك بمحرك المدفأة الحديدي و لواه بسهولة ، و صاح : ابتعد عن طريقي و إلا …… قال هولمز : أراك إنسان شديد التهذيب قوي العضلات …. و أمسك بالمحرك و رده مستقيما كما كان بحركة واحدة ، فرماه الرجل بنظرة شريرة و غادر الغرفة مسرعا . و حين بقينا وحدنا قال هولمز : لا أريد لهذه الفتاة أن تلقى المتاعب بسببي ، أحتاج إلى بعض المعلومات ، و سوف أحصل عليها ثم أعود . و رجع هولمز بعد ساعة و قال : لقد اطلعت على وصية أم هيلين ، إن أموالها لم تعد طائلة بعد انهيار العائدات الزراعية ، و إذا تزوجت الفتاتان فسوف يواجه زوج أمهما الإفلاس . و قد تخلص من الأولى ، و أخشى على الثانية من شره ، لنسرع إلى ستون موران و لا تنس أن تحمل مسدسك معك يا واطسون ، لأن من يلوي محراك المدفأة يحتاج إلى شيء مختلف عن البراهين المنطقية و ركبنا القطار أنا و هولمز ، ثم استأجرنا عربة من المحطة التي تبعد حوالي 8 كيلومترات عن ستون موران ، فمشت بنا عبر الحقول المزهرة و كان النهار جميلا يتناقض مع البناء المتداعي الذي رأيناه قائما فوق تلة مرتفعة . و سأل هولمز السائق عن ستون موران فقال : إن المزرعة أما منا ، و الأفضل أن تسيروا عبر الحقول لتصل إليها . فنزلنا من العربة و دفعنا للسائق أجرته فعاد أدراجه . صعدنا التلة إلى المزرعة ، فقال هولمز و قد رأى هيلين : صباح الخير يا آنسة هيلين …لقد وفينا بوعدنا . فأسرعت الفتاة إلى لقائنا و قد ظهرت بشائر الفرحة على وجهها ، و صاحت : كنت أنتظركما بفارغ الصبر ، و لقد غادر زوج أمي المزرعة ، و لن يعود إلا المساء .. فقال هولمز بلهجة مخادعة : لقد تشرفنا بمعرفته . و حكى لها بكلمات ما حدث هذا الصباح ، فاصفر وجهها و قالت : إنه ماكر و لم أنتبه إلى إنه يراقبني .. ماذا سيقول لي بعد عودته ؟؟ هولمز : سيكون حذرا ، أغلقي هذا المساء غرفتك بعناية ، و إذا خفت أن يضربك أخذناك إلى عمتك ، و لكن علينا ألا نضيع الوقت الآن ، أين الغرف ؟؟ كان البناء متداعيا و قد نصبت الصقالات لترميمه ، و لكننا لم نجد للعمال أثرا . و مشى هولمز عبر أطلال الحديقة و تأمل المنزل من الخارج و قال : أظن أن هذه نافذة الغرفة التي تنامين فيها ، و في الوسط غرفة أختك ، وهذه الأخيرة غرفة زوج أمك ؟؟ هيلين : تماما … و لكني قلت لك إني أشغل الآن الغرفة الوسطى . هولمز : بسبب الترميم ، و لكن هل هذا الترميم ضروري فعلا . هيلين : لا ، و أظن زوج أمي اخترعه لكي يضطرني إلى تبديل غرفتي . هولمز : كلام صائب …و أظن أن الدهليز يمر أمام الغرف و لها نوافذ تطل عليه . هيلين : نعم .. ولكنها صغيرة ضيقة لا يستطيع أحد الدخول منها . هولمز : حسنا ، ادخلي الآن غرفتك ، وأرجو أن تغلقي أبواب النوافذ الخشبية . فدخلت هيلين و أغلقتها ، وحاول هولمز أن يفتحها من الخارج فلم يقدر ، ولم يجد شقا يدخل منه سكينا يدفع به قضيب الحديد الذي يعترضها من الداخل . فقال هولمز وهو يحك ذقنه : حسنا …. لا يمكن فتحها من الخارج … إن فرضيتي أصيبت بضربة عنيفة ، لندخل الآن . لم يهتم هولمز بغرفة هيلين بل انصرف إلى الغرفة التي كانت تشغلها المرحومة جولي ، وهي واطئة السقف فيها مدفأة واسعة وسرير و طاولة صغيرة بجانب النافذة اليسرى و فوق سجادة دائرية الشكل كرسيان من الخشب . فجلس هولمز على أحد الكرسيين ، وجعل يتأمل الغرفة كأنه يريد أن يحفر تفاصيلها في ذاكرته و أشار بعد قليل إلى حبل مجدول يتدلى فوق السرير و قال : أين نهاية هذا الحبل ؟؟ هيلين : في غرفة الخادمة لاستدعائها . هولمز : و هل هو هنا منذ زمن طويل ؟؟ هيلين : منذ ثلاث أو أربع سنوات . هولمز : و هل طلبت أختك أن يوضع في غرفتها ؟ هيلين : لا …… ونحن لا نستخدمه أبدا …. فقد تعودنا أن ندبر أمورنا بنفسنا ، و لا نحتاج إلى الخدم . فأمسك هولمز بالحبل و جذبه بقوة فلم نسمع صوت الجرس و لم يتحرك الحبل من مكانه ، فقال : آه .. إنه جرس زائف …. و الحبل مربوط بحلقة فوق فتحة التهوية . فقالت هيلين : لم ألاحظ هذا من قبل …. أمر عجيب . فقال هولمز : طبعا … و إني لأتساءل كيف يفكر المهندس المعماري ببناء فتحة تهوية تؤدي إلى الغرفة المجاورة و لا تؤدي إلى الخارج . هيلين : هذه الفتحة أحدثت مؤخرا . هولمز : لعلها أحدثت مع حبل الجرس أيضا . هيلين : نعم … في الوقت نفسه . فقال هولمز : جرس لا يقرع … و فتحة تهوية لا فائدة منها ، سأرى الغرفة المجاورة إذا سمحت . كانت غرفة الدكتور أوسع قليلا ، و لكن فيها الأثاث البسيط نفسه ، سرير متنقل ، و مكتبة صغيرة من الخشب الأبيض مملوءة بالكتب الطبية ، و كنبة و كرسي خشبي و طاولة مدورة و حقيبة معدنية كبيرة . و تفحص هولمز الأثاث بعناية ، و قال و هو يلمس الحقيبة المعدنية بقدمه : ماذا يوجد بداخلها ؟ هيلين : فيها أوراق زوج أمي ، و قد رأيتها مفتوحة منذ سنوات ، و أذكر أن فيها أوراقا و مصنفات . هولمز : و لا أظن أن فيها مكانا للقطط . هيلين : قطط ؟ أي قطط ؟ ليس لدينا قط . هولمز : حقا ؟ و ما هذا ؟ و أشار إلى صحفة على الأرض مملوءة بالحليب . فقالت هيلين : فعلا .. و لكن ليس لدينا قط … لدينا نمر و غوريلا فقال هولمز : على كل حال النمر قط كبير ، و لكن لا تشبعه صحفة حليب . تفحص هولمز الأرضية بمكبرته ، ثم التقط شيئا و قال : ما رأيك بهذا يا واطسون ؟ واطسون : إنه رسم كلب … و في طرفه أنشوطة ، و ما فائدته ؟ فقال هولمز : سنعرف فيما بعد …. و الآن يا آنسة هيلين … إن حياتك في خطر ، و لا أريد أن يفاجئنا الرجل هنا ، و قد عزمنا أن نقضي اللية في غرفتك … فإذا أقبل المساء تذرعي بصداع لكي تدخلي هذه الغرفة التي تنامين فيها ، و حين يظلم الليل افتحي النافذة و أضيئي المصباح و اخفضيه 3 مرات ، لأننا سننزل في فندق القرية القريب ، ثم غادري هذه الغرفة إلى غرفتك السابقة ، و لا تنسي أن تتركي النافذة مفتوحة لأننا سننام لأننا سننام في غرفة أختك … فقالت هيلين : أظنك تدبر خطة . هولمز : ممكن …. و لا أريد الحديث عنها . هيلين : هل تصدقني إذا قلت لك إن أختي ماتت من الخوف ؟ هولمز : لا… لقد ماتت من شيء ملموس ، سنسعى إلى اكتشافه … و لكن افعلي ما أوصيتك به حرفيا ! استأجرنا غرفة و قاعة في الطابق الأول من فندق ** التاج ** و كانت تطل على ستون موران ، و الجانب المسكون من البناء فيه ، و مع حلول الظلام رأينا الدكتور يعود إلى الدار ثم يضاء النور في غرفته . فقال هولمز لي: إني أشعر بتأنيب الضمير ورطتك في هذه القضية واطسون : وهل تحسبني خائفا من الأخطار ؟ وهل نسيت ما واجهناه معا ؟ ولكن قل لي إلى أين وصلت تحرياتك ؟؟ هولمز : لقد رأيت بنفسك ما رأيته أنا .. واطسون : ولكنك استنتجت شيئا … هذا واضح هولمز : لم أستنتج شيئا خاصا ، ولفت انتباهي رسن الكلب هذا ، فما فائدته ؟؟ واطسون : وفتحة التهوية ؟ إنها صغيرة لا تتسع لقبضة اليد ….. ولكن ما العجيب فيها ؟؟ هولمز : كنت أتوقع وجودها قبل قدومي إلى ستون موران واطسون : كيف ذلك ؟؟ هولمز : ذكرت لنا الفتاة أنها شمت رائحة السيجار من غرفتها ، وعلمت أن زوج أمها ما يزال مستيقظا ، مما يدل على وجود فتحة ينفذ منها الدخان ، و أجد كثيرا من المصادفات : فتحة تهوية و حبل جرس وفتاة تموت في سريرها . فقال واطسون : وأين الغرابة في هذا ؟ هولمز : ألم تتأمل السرير جيدا ؟ واطسون : نعم . هولمز : وهل لاحظت شيئا ؟ واطسون : لا لم ألاحظ شيئا . هولمز : إنه مثبت بالأرضية ولا يمكن زحزحته من مكانه ، فهل رأيت أسرة من هذا النوع ؟؟ واطسون : هذا غريب ! هولمز : إنه أكثر من غريب يا واطسون ، فالفتاة لا تستطيع إلا أن تنام تحت حبل الجرس المعلق تحت فتحة التهوية . فقال واطسون بلهجة الخائف : هولمز ! لقد بدات أدرك ما تعني … ولكن هذا أمر فظيع ! فهز رأسه قائلا : إنه ابتكار مخيف … فلا حد للشراسة الإنسانية . حوالي التاسعة أطفئت الأضواء بالمنزل البعيد وساد الظلام . وبعد ساعتين التمع نور المصباح في النافذة ثلاث مرات ، فهب هولمز واقفا وقال : الإشارة … هيا يا واطسون …. جاء دورنا . أعلمنا صاحب الفندق بأننا سنزور صديقا لنا في الناحية ومن المحتمل أن نقضي الليلة عنده ، وخرجنا فإذا الليل بارد والجو كئيب . لم نجد صعوبة في اجتياز السهل المحيط بالمبنى ، ودخلنا الحديقة التي انهارت أسوارها ، وما كنا نخطو بضع خطوات حتى رأينا مخلوقا قزما شبيها بالإنسان يلوح بيديه وهو يمشي متمايلا على جانبيه ، فأمسكت بيد هولمز خائفا وتشبث بي ومر بجانبنا دون ان يلتفت إلينا ، وابتعد يجري و همست بضحكة مكتومة : الغوريلا ! لقد نسينا هواية الدكتور في جمع الحيوانات فأسرعنا قبل أن يتعرف علينا النمر ودخلنا الغرفة وأغلق هولمز النافذة ووضع مصباحا على الطاولة فإذا الغرفة كما تركناها . وقرب هولمز فمه في أذني وهمس بصوت لا يكاد يسمع : يجب ألا تحدث صوتا و إلا فالموت بانتظارنا ، يجب أن نطفئ المصباح لئلا يرى نوره من فتحة التهوية واجعل مسدسك في متناول يدك …. سأجلس بجانب السرير واجلس أنت على الكرسي ، الصمت او الموت ! أخرجت مسدسي ووضعته على الطاولة ، وكان هولمز قد جلب معه سوطا رفيع مرنا ، فوضعه على السرير بجانب شمعة وعلبة كبريت ثم أطفأ المصباح … ولبثنا في الظلام ، ولن أنسى ما حييت ذلك الإنتظار المريع ، إذا كنت لا أسمع تنفس هولمز وهو قريب مني … وتناهى إلينا زئير النمر في الحديقة ، فمر علينا الزمن كأنه دهر طويل ، وتيبس أطرافي وأنا لا أجرؤ على الحركة ، وتوفزت حواسي في الظلام . وفجأة التمع برق أحمر من جهة فتحة التهوية ثم اختفى ، وشممنا رائحة اشتعال الزيت والمعدن الساخن ، فقد أضيء القنديل في الغرفة المجاورة ، وسمعت حركة فتهيأت للوثوب ، ولكن الوثوب على أي شيء ؟؟ واشتدت الحركة ، واقشعر جسدي وانا أسمع صوت فحيح كأنه الماء يغلي على النار ، الصفير في الحجرة . فنهض هولمز و أشعل عود كبريت ، وبدا يضرب بسوطه حبل الجرس المتدلي فوق السرير وهو يصيح : هل تراه ياواطسون ؟ هل تراه ؟ و لكنني لم أر شيئا ، وحين أشعل هولمز عود الكبريت ارتفع الفحيح وصار أقوى ، ولم أبصر على النور الضئيل ما كان يضربه بهذا العنف ، وما كنت أرى سوى وجهه الشاحب المليء بالغضب والاشمئزاز . وتوقف عن الضرب بسوطه وهو يلهث وينظر إلى فتحة التهوية فارتفعت من الناحية الثانية من الجدار صرخة هائلة لم أسمع مثلها صرخة ألم وخوف وغضب ، تعالت ثم انتهت باختناق المحتضر . و صحت: ما هذا ؟ فنظر إليه هولمز ووجهه أصفر كالليمون : لقد انتهى كل شيء .. هذا أفضل ..احمل مسدسك ولندخل غرفة الديكتور . وطرق الباب المجاور فلم يسمع شيئا ، فأدار المقبض وفتح الباب وتبعته ومسدسي بيدي …. كان القنديل على الطاولة يرمي شعاعه النحيل والحقيبة المعدنية مفتوحة ، والدكتور روالوت على كرسيه ثابت لا يتحرك ، وعلى ركبيته رسن الكلب الذي شغل فكري ، ورأسه ملقى إلى الوراء وعيناه مفتوحتان تحدقان في السقف و على جبينه شريط أصفر مرقط ببقع بنية ملتصق به . فهمس هولمز : الشريط …. الشريط المرقط وتقدمت خطوة إلى الأمام فتحرك الشريط العجيب على جبين الميت وارتفع طرفه ، فإذا هو رأس أفعى مثلث الشكل . وهمس هولمز لي : أفعى مائية …. أشد أفاعي الهند فتكا ، ويموت من تلدغه بعد عشر ثواني ، لقد قتل نفسه بنفسه ، لنرجع هذه الأفعى إلى الحقيبة المعدنية . وأمسك بالرسن ذي الأنشوطة ، وأحكمه على عنق الأفعى ثم انتزعها بجذية قويه وحملها بعيدة عن جسمه ، ثم رماها في الحقيبة الحديدية و أغلق غطاءها كذلك كان موت الدكتور روالوت ، وغني عن القول أن الشرطة اعتبرت وفاته حادثا ، وقد ذهبت الآنسة هيلين إلى بيت عمتها ، وتزوجت بعد ذلك . وما بقي علي قوله قد سمعته من هولمز ونحن في طريق العودة ، قال هولمز وهو يفكر بعمق : لقد سرت في طريق خاطئة حين ربطت ما بين الشريط المرقط وبين الغجر المقيمين في الحقول ، وسبب ذلك ما قالته لي هيلين ، ولكني حين اكتشفت الرسن الذي تربط به الأفاعي ، وفتحة التهوية وجهت نظري إلى إمكانية وجود حيوان ، لأن الدكتور مولع بجلب الحيوانات من الهند وكان ينبغي للمفتش أن يكتشف العضتين اللتين تركتها الأفعى في عنق الفتاة ؟ والدكتور روالوت المجرم خبير بالسموم ، وهو يعرف ان سم هذه الأفعى لا يكتشف بالتحاليل الكيماوية أو الطبية الحالية ، ولعل جولي قد نجت من لدغ الأفعى مرات ومرات حتى ظفرت الأفعى بها . قد أكون مسؤولا عن موت الدكتور لأني هاجمت الأفعى بسوطي و أجبرتها على العودة من فتحة التهوية فارتمت على الدكتور ، ولكنها مسئولية لا تشغل بالي ولا تمنع النوم من عيني . |
رواية جميله
reem- مـديـرة عـــامـة
- عدد المساهمات : 182
تاريخ التسجيل : 27/01/2010
- مساهمة رقم 1